**مذهب بايدن للشرق الأوسط- طموحات في مواجهة الواقع**

يجسد "مذهب بايدن" للشرق الأوسط رؤية شاملة، أقرت – كما أشار توماس فريدمان، الكاتب البارز في الـ"نيويورك تايمز" – على أرفع المستويات في الإدارة الأمريكية. تهدف هذه الرؤية إلى إعادة تشكيل خارطة المنطقة، ولكنني أرى أنها ترمي بالأساس إلى استيعاب التداعيات الاستراتيجية التي نجمت عن عملية "طوفان الأقصى"، وذلك للحفاظ على المصالح الجوهرية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، والتي تتضمن استمرار تدفق النفط، وضمان أمن إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى الولايات المتحدة من خلال هذا المذهب إلى التفوق على النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وذلك عبر التأكيد المستمر على قدرتها على حفظ الأمن والاستقرار. وقد أبرزت عملية "طوفان الأقصى" الدور الثانوي الذي تلعبه الصين في ديناميات القضية الفلسطينية.
يرتكز مذهب بايدن على ثلاث دعائم أساسية:
- إقامة تحالف دفاعي أمريكي-سعودي-إسرائيلي، يتضمن تطبيعًا للعلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني.
- السعي الجاد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
- مواجهة حازمة لإيران ووكلائها في المنطقة.
يبدو أن المنطق الأمريكي الذي يرتكز عليه هذا المذهب يقوم على فكرة "المربعات المتداخلة": فالحل الجذري للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يكمن في "حل الدولتين" – قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل – ومفتاح تحقيق حل الدولتين هو اتفاق التطبيع السعودي، في حين أن مفتاح التطبيع السعودي يكمن في إنهاء الحرب الدائرة في غزة، وهذا بدوره يتطلب التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن.
إلا أنه يمكن النظر إلى هذه المربعات المتداخلة من زاوية مختلفة: فالحديث عن إنشاء دولة فلسطينية – حتى وإن لم يكن حل الدولتين حلاً نهائيًا – يمثل مطلبًا ضروريًا للتطبيع مع باقي دول المنطقة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. كما أنه ضروري – بغض النظر عن الجدوى الواقعية – لاحتواء الغضب الشعبي العربي المتزايد تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومن شأن هذا التطبيع أن يغير الصورة النمطية التي ترسخت مع عملية "طوفان الأقصى"، والتي مفادها أن إسرائيل – وليس إيران – تمثل الخطر الأكبر على أمن المنطقة، كما أظهرت استطلاعات الرأي العام العربي.
هناك قناعة راسخة لدى الدوائر السياسية الغربية، وكذلك لدى بعض الدول العربية، بأنه في حال تم التوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فإن ذلك سيضعف شوكة إيران، ويعزز الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. "إن مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة يكمن في التعامل الحاسم مع إيران"، هذا ما صرح به وليم بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في مقال له نشر مؤخرًا في مجلة "فورين أفيرز".
لقد أصبحت إيران اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي، وهي تمارس تأثيرًا كبيرًا على الشؤون الإقليمية من خلال وكلائها، مثل حزب الله والحوثيين، فيما يُعرف بـ"محور المقاومة".
خمس نتائج إستراتيجية بارزة:
- فشل ذريع لما أُطلق عليه "صفقة القرن" وتجسيدها العملي اتفاقات "أبراهام"، التي تجاهلت بشكل سافر المطالب العادلة للشعب الفلسطيني. لقد قامت هذه الاتفاقات على أساس مبدأ "السلام مقابل السلام".
أما الآن، فإن الهدف المنشود هو التحرك نحو إقامة دولة فلسطينية جنبًا إلى جنب مع الجهود الحثيثة لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول العربية والإسلامية. أي العودة إلى الصيغة القديمة، وهي "الأرض مقابل السلام"، أو على الأقل إيجاد مسار موثوق به لإقامة دولة للفلسطينيين قبل المضي قدمًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل أو المشاركة في إعادة إعمار غزة. - إن الجهود المضنية التي تبذلها بعض الدول لتحديث مجتمعاتها واقتصاداتها، تواجه خطرًا حقيقيًا في غياب حل عادل وشامل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. لقد أصبحت القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من المصالح الوطنية للحكومات العربية، وليست مجرد قضية عربية أو إسلامية، بغض النظر عن التصورات الشعبية السائدة في المنطقة.
علاوة على ذلك، فإن الاختراقات الدبلوماسية التي انطلقت قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول بهدف حل النزاعات والتوترات بين دول المنطقة، لن تحقق الاستقرار المنشود دون معالجة جذرية للقضية الفلسطينية. - على الرغم من التكاليف الشعبية الباهظة، فإن منطق التطبيع لا يزال قائمًا. إن الجهود المتواصلة التي تبذلها المملكة العربية السعودية للإبقاء على الباب مفتوحًا أمام التطبيع، تؤكد أن الصفقة الضمنية لدول الخليج لا تزال مغرية: التطبيع مع إسرائيل مقابل تحسين العلاقات وزيادة النفوذ لدى الولايات المتحدة، مما يتيح لها الحصول على التزامات أمنية قوية، وتعزيز الوصول إلى التكنولوجيا وأنظمة الدفاع الأمريكية المتطورة.
- يتعين على الحكومات الراغبة في المضي قدمًا في مسار التطبيع الآن أن توازن بين أمرين: الأول: التقدم وفق التزامات واضحة وجدول زمني محدد لإقامة الدولة الفلسطينية، وليس مجرد وعود غامضة كما كان الحال في السابق. الثاني: استيعاب وإدارة حالة الغضب الشعبي العارم تجاه العدوان الإسرائيلي، والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم إسرائيل بلا حدود.
- إن سياسة نتنياهو القائمة على إعطاء الأولوية لمواجهة التهديد الإيراني لإسرائيل والمنطقة، والعمل بنشاط ضد سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالقضية النووية، وخُطة العمل الشاملة المشتركة التي بدأتها إدارة أوباما، قد باءت بالفشل الذريع.
لقد أصبحت إيران الآن أقرب من أي وقت مضى إلى امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي، وهي تمارس تأثيرًا كبيرًا على الشؤون الإقليمية من خلال وكلائها، مثل حزب الله والحوثيين، فيما يُعرف بـ"محور المقاومة".
أوهام عقيدة بايدن للشرق الأوسط:
أما القول بأنها مجرد أوهام لا أساس لها من الصحة، وتخرصات أطلقها فريدمان لأسباب مختلفة، فيعود إلى عدة عوامل، أبرزها:
- الرفض الإسرائيلي القاطع لفكرة إنشاء دولة فلسطينية. وبالطبع، نحن لا نتحدث هنا عن القدس والمقدسات المسيحية والإسلامية فيها، ولا عن طبيعة الدولة الفلسطينية المنشودة؛ هل ستكون منزوعة السلاح أم ذات سيادة كاملة، أم مجرد كيانات تتمتع بالحكم الذاتي في ظل الهيمنة الإسرائيلية؟
لقد أدت عملية "طوفان الأقصى" إلى ربط المملكة العربية السعودية علاقاتها مع الكيان الصهيوني بإنشاء الدولة الفلسطينية، وهو ما أرى أنه غير قابل للتحقيق على المدى القصير أو المتوسط.
لا يمكن توفير عملية تفاوضية ذات مصداقية تفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المنشودة، وذلك لأسباب تتعلق بعدم استعداد الأطراف المشاركة والضامنة للتعامل مع هذا الملف الشائك.
فالسلطة الفلسطينية بحاجة ماسة إلى إصلاح شامل، ولم يتضح بعد من سيحكم إسرائيل بعد انتهاء الحرب الحالية. كما أن هذا العام يشهد انتخابات رئاسية أمريكية، ولا ندري ما الذي ستسفر عنه هذه الانتخابات؛ هل سيستمر بايدن في منصبه أم سيعود ترامب، أم سيتم استبعاد كليهما لأسباب صحية لدى الأول، وقانونية لدى الثاني، لتكون المنافسة بين شخصيات أخرى؟ وحتى إذا سنحت الفرصة – وهو أمر أستبعده في ظل المعطيات الحالية – فقد نضطر إلى الانتظار حتى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وسلطة فلسطينية محسنة، وتولي بايدن ولاية رئاسية ثانية. ولا نتحدث هنا عن إعادة الإعمار أو وضع حماس والمقاومة.
- أحد الركائز الأساسية لعقيدة بايدن هو المواجهة الحازمة مع إيران، وهو أمر ليس محل إجماع بين دول المنطقة.
فقد عجزت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف إقليمي لمواجهة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. ومع اندلاع عملية "طوفان الأقصى"، اعتمدت سياسة الولايات المتحدة – حتى الآن – في التعامل مع إيران على مرتكزين أساسيين: التعاون معها لعدم توسيع نطاق الحرب، بالإضافة إلى ردع وكلائها. وفي حال تعرض الجنود الأمريكيون للخطر، يتم الاشتباك العسكري المباشر معهم بطريقة محددة الأهداف دون توسيع دائرة الصراع، وهو ما أثبت فعاليته حتى الآن. - يتطلب إقرار معاهدة الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تصديقًا بأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، وذلك في ظل وجود كونغرس يكافح من أجل الاتفاق على أي شيء، ولا سيما طلب بايدن الحصول على المزيد من الأموال لمساعدة أوكرانيا وإسرائيل وغيرهما.
وحتى في حال تم التوصل إلى اتفاق هذا العام، فإنه يجب أن يحظى بدعم الحزبين، حتى لو عارضه بعض الديمقراطيين اليساريين والجمهوريين الانعزاليين. وإذا فاز ترامب بولاية رئاسية ثانية، فمن المحتمل أن يصوت الديمقراطيون بشكل جماعي ضد معاهدة الدفاع.
الخلاصة:
"الشرق الأوسط هو المكان الذي ستموت فيه الأفكار الأمريكية الكبرى"، كما حذر آرون ديفيد ميلر، وهو مفاوض مخضرم عمل في مجال السلام في الشرق الأوسط لسنوات طويلة.
لقد تعلمنا من تجربة التاريخ الممتدة لثلاثة عقود، وهي عمر اتفاق أوسلو، أن "الاستثمار الأمريكي الضخم في بناء دولة فلسطينية من المرجح أن ينتهي بالفشل، كما حدث مع الجهود السابقة لتحقيق نفس الهدف"، وفق ما خلص إليه ستيفن كوك، الكاتب البارز في صحيفة "فورين بوليسي".
أخيرًا – وهو الأهم في تقديري – لا أحد يستطيع أن يجزم بما إذا كان من الممكن اتخاذ خطوات جادة وملموسة في ظل السياسات الإسرائيلية العدوانية، والطموحات السياسية لليمين الصهيوني المتشدد، والتي يجسدها في هذه المعركة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
